بين العنف والسلام العادل: تأملات في معنى القوة والعدالة والتقدّم الإنساني
✦ مقدّمة
يعيش الإنسان منذ فجر التاريخ في صراع دائم بين نزعتين متقابلتين: نزعة القوة والسيطرة، ونزعة السلام والعدل. وبين هاتين القوتين المتعارضتين نشأت الحضارات وسقطت أخرى، وتحدّدت مسارات الأخلاق والفكر والسياسة.
تسعى هذه التأملات إلى طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية حول مفهوم القوة والعدالة، وحدود استخدام العنف، وإمكان قيام التقدّم في بيئة من السلم العادل.
1. ما هي القوة التي يحتاجها العالم لتقدّمه وازدهاره؟
القوة ليست مفهومًا واحدًا؛ فهي تتخذ أشكالًا متعددة: اقتصادية، علمية، عسكرية، وأخلاقية. غير أن التقدّم الحقيقي لا يتحقق بالقوة المادية وحدها، بل بالقوة التي تُعيد للإنسان توازنه الداخلي، وتُعزّز ثقافة المعرفة والضمير الجمعي. فالحضارات التي تقوم على العلم والعدل أطول عمرًا من تلك التي تقوم على السلاح والهيمنة.
2. قوة الحرب أم قوة السلام؟
يبدو التاريخ الإنساني وكأنه اختبار دائم بين خيارين: الحرب بوصفها محرّكًا للتغيير، والسلام بوصفه أساسًا للبناء. غير أن التطوّر الحديث كشف أن الحرب، مهما بدت مبرّرة، تخلق اختلالًا في ميزان الإنسانية. بينما السلام القائم على القيم المشتركة، والاحترام المتبادل بين الأمم، ينتج استقرارًا مستدامًا يهيّئ البيئة للإبداع والازدهار.
3. السلام أم الحرب في مصلحة الحياة البشرية؟
تقدّم البشرية لا يمكن أن ينشأ في بيئة العنف، لأن الحرب تستهلك الموارد وتغذّي الخوف والشك. أما السلام العادل، فهو شرط أساسي لازدهار الإنسان، إذ يتيح تراكم المعرفة، واستثمار الطاقات في البناء لا الهدم.
4. العدالة بين الحرب والسيطرة
تاريخ الإنسان حافل بحروبٍ رفعت شعار العدالة، لكنها انقلبت إلى أدوات للهيمنة. الفرق بين الحرب العادلة والحرب الاستغلالية هو أن الأولى تستند إلى قيم إنسانية كونية، بينما الثانية إلى نزعة الامتلاك. العدالة الحقيقية لا تُفرض بالقوة الغاشمة، بل بقوة القانون والضمير الإنساني.
5. قوة السلم وأسسها
السلم ليس ضعفًا، بل هو أعلى درجات القوة الأخلاقية. قوته تنبع من الحكمة والقدرة على ردع الظلم دون الوقوع في فخه. إنه سلام مبني على عدالة تُحقّق الكرامة للإنسان، لا على خنوعٍ يُكرّس الاستبداد. لذلك، فإن بناء السلام يحتاج إلى توازنٍ بين الردع العادل والتسامح الواعي.
6. هل يمكن أن يوجد تقدّم في ظل العنف؟
العنف يخلق حركة مؤقتة، لكنه لا يخلق حضارة. قد تخرج بعض الابتكارات من رحم الحروب، لكنها تظل نتائج ظرفية لبيئة مأزومة. أما الازدهار بمعناه الإنساني العميق، فلا يمكن أن ينمو في تربة الخوف والدمار.
7. وهل يمكن أن يستمر التقدّم في ظل السلام العادل؟
نعم، بل إن السلام العادل هو الحاضن الطبيعي للتقدّم الحضاري. فحين يتوفّر الأمان والإنصاف، تُستثمر طاقات الإنسان في الابتكار لا النجاة. السلام لا يعني الجمود، بل هو الحاضنة التي تُتيح للإنسان أن يرتقي فكريًا واقتصاديًا وأخلاقيًا.
8. الاستعداد للحرب أم بناء السلم؟
قد يبدو الاستعداد للحرب ضرورة للأمن، لكنه يصبح خطرًا إن تحوّل إلى غاية. فالأمن الحقيقي لا يقوم على التسلّح وحده، بل على العدالة الاجتماعية، والتعليم، والتكافؤ بين الشعوب. دعاة الاستعداد للحرب باسم السلام يمكن تسميتهم بـ"أنصار الردع"، أما دعاة السلم القائم على العدالة فهم "صُنّاع التوازن الإنساني".
✦ العدالة الإلهية وإعادة التوازن
ليست العدالة في ميزان الحضارات انتقامًا، بل توازنًا بين الفعل والنتيجة يحفظ للنظام الكوني انسجامه. فالقصاص في جوهره ليس “عينًا بعين” بمعناها البدائي، بل مبدأ كوني يُعيد الاتزان إلى الحياة.
قال تعالى:
> «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» [البقرة: 179].
فالقصاص هنا حياة لا موت، وردعٌ لا انتقام، وعدالةٌ تُقيم السلم على أساس من الحكمة الإلهية، لا على منطق القوة البشرية.
✦ الخاتمة
القوة الحقيقية ليست في القدرة على التدمير، بل في القدرة على منع التدمير. السلام العادل ليس ضعفًا ولا استسلامًا، بل هو وعي حضاري ناضج يوازن بين الحق والرحمة، بين الردع والعفو.
فإذا استطاعت الإنسانية أن تُحوّل مفهوم القوة من العنف إلى العدالة، ومفهوم السلام من الخضوع إلى التوازن، فإنها تكون قد بلغت مرحلة النضج الأخلاقي، وأقامت أركان حضارةٍ جديدة على أنقاض قرونٍ من الصراع.
المراجع والمصادر الفكرية:
1. القرآن الكريم.
2. أرسطو، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد.
3. إيمانويل كانط، مشروع السلام الدائم، ترجمة محمد الهلالي.
4. جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة فؤاد زكريا.
5. هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد
6. المهاتما غاندي، السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة (للمقارنة الفلسفية لا الاستشهاد المباشر).
7. مالك بن نبي، شروط النهضة.
8. محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام.
9. هانا آرندت، في العنف.
10. تقرير الأمم المتحدة عن بناء السلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق