تاريخ الهوة بين الشعب الموريتاني ودولته
استراتيجية بناء المواطنة والتنمية الوطنية
المقدمة: التناقض بين الثراء والإخفاق التنموي
تُعد الجمهورية الإسلامية الموريتانية نموذجًا للتناقض الصارخ بين الثراء الهائل في الموارد الطبيعية والاحتياطيات (كالذهب، واليورانيوم، والغاز، والحديد، والفسفات ، والنحاس ، والفضة ،والقصدير ، والزنك ...وأكثر من 600 نوع من الأسماك، بالإضافة إلى ثروة حيوانية ضخمة وإمكانيات زراعية وطاقية متجددة)، وبين الإخفاق التنموي المستمر الذي غذته فجوات تاريخية عميقة في بناء الدولة.
لقد ورثت الدولة الحديثة قطيعة تاريخية بين سلطة المستعمِر ومعظم الشعب البدوي المسلم، استمرت وتعمقت بعد الاستقلال بسبب طبيعة الطبقة التي استلمت السلطة، ورفض الأغلبية البدوية المدينة وأطرها، مما أدى إلى حصر الدولة ومنافعها في يد أقلية ضيقة ارتبطت بالسلطة والمال، وشكلت فيما بعد طبقة حاكمة سيطرت على مراكز القوة الاقتصادية والوظيفية.
إن معالجة مستنقع الفساد والزبونية والمحسوبية تتطلب استراتيجية متكاملة تتجاوز الإصلاحات الجزئية لتلامس الجذور التاريخية والاجتماعية لهذه الهوة.
أولاً: المراحل التاريخية والاجتماعية للهوة
1. فترة الاستعمار الفرنسي القطيعة الأولى
الخاصية: تميزت برفض الأغلبية البدوية المسلمة لدولة المستعمر ومؤسساته كالمدارس، واعتبرتها قوة قاهرة وظالمة يجب محاسبتها.
الإشكالية: فرض ضريبة "العشر" القمعية، التي كانت سبباً قوياً في نفور الموريتانيين، مما عمق الهوة.
النتيجة: انحصر التعامل مع المستعمر في أقلية ضيقة هادنته واستفادت من منافعه، وشكلت فيما بعد نواة الموظفين والإداريين.
2. مرحلة الاستقلال المبكر القطيعة الثانية
الخاصية: استلمت السلطة نخبة ضعيفة الموارد والخبرة موظفي المستعمر السابقين، قَبِلت باتفاقيات تضمنت تبعية فرنسية لما تتضمنه من تحكم في الكيان الجديد.
الإشكالية: استمرار الدولة الوليدة في ممارسات جمع الضرائب العنجهية بنفس طرق الفرنسيين، وضعف قدرتها على توعية المجتمع أو تقديم خدمات تقربهم منها.
النتيجة: استمرار الهوة العميقة بين الدولة الجديدة والأغلبية المجتمعية التي رفضت المدنية والاستقراروظلت متمسكة بـحياتها البدوية الأصيلة التي تعتبرها أساس مجدها. بدأ احتكار المنافع والوظائف في الأقلية التي أسست عليها الدولة.
3. مرحلة الأزمة الاجتماعية والتحول الهوة الثالثة
الخاصية: قضى الجفاف على حضارة المنمين وعزتهم، وأجبر الأغلبية الرحل على النزوح للمدن والبحث عن التعليم بالخارج، مما أدى إلى ظهور جيل متعلم جديد من أبناء هذه الأغلبية.
الإشكالية: سعت الطبقة الحاكمة الناشئة من موظفي المستعمر ومن دار في فلكهم للحفاظ على امتيازاتها عبر تغيير كل المعايير القيمة وإعلاء المعيار المادي، واحتكار الوظائف المهمة والترقيات وإقصاء المنافسين الجدد.
النتيجة: تأسيس دولة احتكارية وظيفيًا واقتصاديًا تهيمن عليها طبقة تسيطر على كل مراكز القوة، مما رسخ الهوة بين الدولة وأغلبية الشعب.
ثانياً: المحور الاقتصادي: الموارد الهائلة وآلية الاستغلال
إن الثراء الموريتاني الهائل (الذي يشمل الذهب، اليورانيوم، الغاز، 600 نوع من الأسماك، 40 مليون رأس من الثروة الحيوانية، وإمكانات زراعية وطاقية متجددة) يجب أن يكون أداة للنهضة لا سبباً في الصراع:
الثروات المعدنية والنفطية والغازية: يجب التحول من تصدير المواد الخام بأقل قيمة مضافة إلى التصنيع التحويلي محلياً، لرفع القيمة وتوفير فرص عمل واسعة للشباب.
الثروة السمكية: يجب بناء أسطول صيد وطني وتطوير صناعات معالجة الأسماك للحد من بيع تراخيص الصيد، وضمان الاستغلال المستدام للمحيط.
الإمكانيات الزراعية والحيوانية: يجب ضخ استثمارات لـ تطوير الري وبناء السدود لاستغلال الأراضي (556 ألف هكتار على النهر و 250 ألف هكتار في الأودية) لـ تثبيت الأغلبية الرحل وتعويضهم عن دمار الجفاف.
الطاقة المتجددة: استغلال الإمكانات الهائلة (الشمس والرياح) لتمويل شبكة كهربائية وطنية شاملة تصل إلى أقصى المناطق، مما يكسر حاجز رفض "المدينة" ويساهم في التصنيع.
ثالثاً: دور الرئيس الوطني:
إن دور الرئيس يكمن في سد الهوة التاريخية والتحول بموريتانيا من دولة محتكرة إلى دولة وطنية شاملة.
1. إصلاح الحكم ومكافحة الفساد:
العدالة الوظيفية: تطبيق معيار الكفاءة والجدارة والخلق فقط في التوظيف والترقية بجميع أسلاك الدولة، وفك احتكار الطبقة الحاكمة.
الشفافية والمساءلة: تدعيم استقلالية هيئات مكافحة الفساد والقضاء، ومحاسبة جميع المتورطين في جرائم المال العام.
إصلاح الإدارة الضريبية: إلغاء الممارسات الضريبية القمعية واستبدالها بنظام ضريبي حديث وعادل وشفاف يضمن المواطنة الضريبية ويشعر المواطن بأن واجباته تقابلها حقوق وخدمات.
2. بناء المواطنة والخدمات الاجتماعية:
ربط الثروة بالحقوق: توجيه عائدات الموارد مباشرة لتمويل الخدمات الأساسية الصحة، التعليم، الماء، الكهرباءفي المناطق المحرومة.
هذا الإجراء ضروري لتغيير الصورة الذهنية للدولة من قوة ظالمة ، إلى مصدر للحقوق والرفاهية.
التوعية والإعلام:
استخدام الوسائل الرسمية لـخلق فكر وطني يربط الفقراء بوطنهم ويعزز الولاء له، بدلاً من التركيز على الولاءات القبلية أو الطبقية.
3. التنمية الاقتصادية الشاملة:
تشجيع المنافسة: تسهيل دخول الكفاءات الاقتصادية والتجارية الجديدة أبناء الأغلبية الجدد إلى عالم الأعمال الرسمي، وتوفير بيئة تنافسية صحية تكسر احتكار سلطة المال المرتبطة تاريخيًا بالطبقة القديمة.
التركيز على التنمية البشرية:
توجيه الاستثمارات نحو التعليم والتدريب المهني لرفع مستوى الكفاءات الوطنية المتراكمة.
الخلاصة: إن الخروج من مستنقع الفساد يتطلب إرادة سياسية لا تتهاون في تفكيك شبكة الزبونية والمحسوبية التي تشكلت عبر التاريخ. إن استخدام الثروات الهائلة لتمويل العدالة الاجتماعية وتنمية الأغلبية المحرومة هو المسار الوحيد لتحويل موريتانيا من تاريخ الهوة إلى دولة وطنية مزدهرة أساسها الكفاءة والمواطنة العادلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق