الحكم في القرآن بين عدل الله واستبداد الطغاة
القرآن الكريم يضع تصورًا واضحًا لمفهوم الحكم والسلطة، يقوم على أن الحكم لله وحده، وأن أساس الملك هو العدل، وأن الطغيان والانحراف عن شرع الله سبب للهلاك والفساد
1. الحكم لله وحده
الله سبحانه هو المصدر الأعلى للتشريع والسلطة، ومنه تُستمد الشرعية:
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40].
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26].
2. العدل أساس الحكم
العدل هو الغاية الكبرى من الحكم، وهو شرط بقاء السلطة:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58].
3. طاعة أولي الأمر في حدود الشرع
طاعة ولاة الأمور واجبة، لكنها مقيدة بطاعة الله ورسوله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59].
فالطاعة المطلقة لله ورسوله، أما طاعة الحكام فهي مشروطة بعدم مخالفة شرع الله وعدله.
4. نماذج الحكام العادلين
داوود عليه السلام: آتاه الله الملك والحكمة وفصل الخطاب، فكان حاكمًا بالعدل:
﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: 20].
سليمان عليه السلام: ورث الملك والحكمة من أبيه، وسخّر الله له الجن والريح، لكنه بقي عبدًا شاكرًا لله.
ذو القرنين: مثال للحاكم الصالح الذي جاب الأرض ناشرًا العدل، وبنى سدًا يحمي الناس من الفساد:
﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ [الكهف: 95].
محمد ﷺ: النموذج الأكمل للحاكمية العادلة، حكم بالشرع، وأقام العدل، وجمع بين القيادة السياسية والرسالة الإلهية.
5. نماذج الحكام المفسدين
القرآن لم يغفل عن ذكر الطغاة الذين جعلوا الحكم وسيلة للظلم والفساد:
فرعون (ملك مصر): رمز الاستبداد، علا في الأرض، استضعف بني إسرائيل وادعى الألوهية:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا...﴾ [القصص: 4].
النمرود (ملك بابل): جادل إبراهيم في الله بسبب غروره بملكه، وادعى القدرة على الإحياء والإماتة:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 258].
ملوك سبأ قبل إسلام بلقيس: عرف عنهم البطش والعلو حين يدخلون القرى:
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل: 34].
أهل مدين وأصحاب الأيكة: استغلوا سلطتهم الاقتصادية في التلاعب بالمكاييل والموازين، فحذرهم شعيب عليه السلام:
﴿وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ [هود: 84].
6. الخاتمة
القرآن الكريم يضع خطًا فاصلًا بين الحاكمية العادلة والطغيان المفسد
فالحاكم العادل يحكم بشرع الله ويقيم العدل كداوود وسليمان وذو القرنين ورسول الله ﷺ.
بينما الطاغية المستبد يتجبر ويعلو في الأرض كفرعون والنمرود وملوك سبأ قبل الهداية.
وبذلك يوجّه القرآن الأمة إلى معيار واضح: السلطة أمانة، والعدل شرط، والطغيان فساد وهلاك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق