الثلاثاء، 14 أكتوبر 2025

تاريخ الهوة بين الشعب الموريتاني ودولته

 تاريخ الهوة بين الشعب الموريتاني ودولته


 استراتيجية بناء المواطنة والتنمية الوطنية

المقدمة: التناقض بين الثراء والإخفاق التنموي


تُعد الجمهورية الإسلامية الموريتانية نموذجًا للتناقض الصارخ بين الثراء الهائل في الموارد الطبيعية والاحتياطيات (كالذهب، واليورانيوم، والغاز، والحديد، والفسفات ، والنحاس ، والفضة ،والقصدير ، والزنك ...وأكثر من 600 نوع من الأسماك، بالإضافة إلى ثروة حيوانية ضخمة وإمكانيات زراعية وطاقية متجددة)، وبين الإخفاق التنموي المستمر الذي غذته فجوات تاريخية عميقة في بناء الدولة.


 لقد ورثت الدولة الحديثة قطيعة تاريخية بين سلطة المستعمِر ومعظم الشعب البدوي المسلم، استمرت وتعمقت بعد الاستقلال بسبب طبيعة الطبقة التي استلمت السلطة، ورفض الأغلبية البدوية  المدينة وأطرها، مما أدى إلى حصر الدولة ومنافعها في يد أقلية ضيقة ارتبطت بالسلطة والمال، وشكلت فيما بعد طبقة حاكمة سيطرت على مراكز القوة الاقتصادية والوظيفية. 

إن معالجة مستنقع الفساد والزبونية والمحسوبية تتطلب استراتيجية متكاملة تتجاوز الإصلاحات الجزئية لتلامس الجذور التاريخية والاجتماعية لهذه الهوة.


أولاً: المراحل التاريخية والاجتماعية للهوة

1. فترة الاستعمار الفرنسي القطيعة الأولى

الخاصية: تميزت برفض الأغلبية البدوية المسلمة لدولة المستعمر ومؤسساته كالمدارس، واعتبرتها قوة قاهرة وظالمة يجب محاسبتها.


الإشكالية: فرض ضريبة "العشر" القمعية، التي كانت سبباً قوياً في نفور الموريتانيين، مما عمق الهوة.


النتيجة: انحصر التعامل مع المستعمر في أقلية ضيقة هادنته واستفادت من منافعه، وشكلت فيما بعد نواة الموظفين والإداريين.


2. مرحلة الاستقلال المبكر القطيعة الثانية

الخاصية: استلمت السلطة نخبة ضعيفة الموارد والخبرة موظفي المستعمر السابقين، قَبِلت باتفاقيات تضمنت تبعية فرنسية لما تتضمنه من تحكم في الكيان الجديد.


الإشكالية: استمرار الدولة الوليدة في ممارسات جمع الضرائب العنجهية بنفس طرق الفرنسيين، وضعف قدرتها على توعية المجتمع أو تقديم خدمات تقربهم منها.


النتيجة: استمرار الهوة العميقة بين الدولة الجديدة والأغلبية المجتمعية التي رفضت المدنية والاستقراروظلت متمسكة بـحياتها البدوية الأصيلة التي تعتبرها أساس مجدها. بدأ احتكار المنافع والوظائف في الأقلية التي أسست عليها الدولة.


3. مرحلة الأزمة الاجتماعية والتحول الهوة الثالثة

الخاصية: قضى الجفاف على حضارة المنمين وعزتهم، وأجبر الأغلبية الرحل على النزوح للمدن والبحث عن التعليم بالخارج، مما أدى إلى ظهور جيل متعلم جديد من أبناء هذه الأغلبية.


الإشكالية: سعت الطبقة الحاكمة الناشئة من موظفي المستعمر ومن دار في فلكهم للحفاظ على امتيازاتها عبر تغيير كل المعايير القيمة وإعلاء المعيار المادي، واحتكار الوظائف المهمة والترقيات وإقصاء المنافسين الجدد.


النتيجة: تأسيس دولة احتكارية وظيفيًا واقتصاديًا تهيمن عليها طبقة تسيطر على كل مراكز القوة، مما رسخ الهوة بين الدولة وأغلبية الشعب.


ثانياً: المحور الاقتصادي: الموارد الهائلة وآلية الاستغلال

إن الثراء الموريتاني الهائل (الذي يشمل الذهب، اليورانيوم، الغاز، 600 نوع من الأسماك، 40 مليون رأس من الثروة الحيوانية، وإمكانات زراعية وطاقية متجددة) يجب أن يكون أداة للنهضة لا سبباً في الصراع:


الثروات المعدنية والنفطية والغازية: يجب التحول من تصدير المواد الخام بأقل قيمة مضافة إلى التصنيع التحويلي محلياً، لرفع القيمة وتوفير فرص عمل واسعة للشباب.


الثروة السمكية: يجب بناء أسطول صيد وطني وتطوير صناعات معالجة الأسماك للحد من بيع تراخيص الصيد، وضمان الاستغلال المستدام للمحيط.


الإمكانيات الزراعية والحيوانية: يجب ضخ استثمارات لـ تطوير الري وبناء السدود لاستغلال الأراضي (556 ألف هكتار على النهر و 250 ألف هكتار في الأودية) لـ تثبيت الأغلبية الرحل وتعويضهم عن دمار الجفاف.


الطاقة المتجددة: استغلال الإمكانات الهائلة (الشمس والرياح) لتمويل شبكة كهربائية وطنية شاملة تصل إلى أقصى المناطق، مما يكسر حاجز رفض "المدينة" ويساهم في التصنيع.


ثالثاً: دور الرئيس الوطني:


إن دور الرئيس يكمن في سد الهوة التاريخية والتحول بموريتانيا من دولة محتكرة إلى دولة وطنية شاملة.


1. إصلاح الحكم ومكافحة الفساد:

العدالة الوظيفية: تطبيق معيار الكفاءة والجدارة والخلق فقط في التوظيف والترقية بجميع أسلاك الدولة، وفك احتكار الطبقة الحاكمة.


الشفافية والمساءلة: تدعيم استقلالية هيئات مكافحة الفساد والقضاء، ومحاسبة جميع المتورطين في جرائم المال العام.


إصلاح الإدارة الضريبية: إلغاء الممارسات الضريبية القمعية واستبدالها بنظام ضريبي حديث وعادل وشفاف يضمن المواطنة الضريبية ويشعر المواطن بأن واجباته تقابلها حقوق وخدمات.


2. بناء المواطنة والخدمات الاجتماعية:

ربط الثروة بالحقوق: توجيه عائدات الموارد مباشرة لتمويل الخدمات الأساسية الصحة، التعليم، الماء، الكهرباءفي المناطق المحرومة.

 هذا الإجراء ضروري لتغيير الصورة الذهنية للدولة من قوة ظالمة ، إلى مصدر للحقوق والرفاهية.


التوعية والإعلام: 

استخدام الوسائل الرسمية لـخلق فكر وطني يربط الفقراء بوطنهم ويعزز الولاء له، بدلاً من التركيز على الولاءات القبلية أو الطبقية.


3. التنمية الاقتصادية الشاملة:

تشجيع المنافسة: تسهيل دخول الكفاءات الاقتصادية والتجارية الجديدة أبناء الأغلبية الجدد إلى عالم الأعمال الرسمي، وتوفير بيئة تنافسية صحية تكسر احتكار سلطة المال المرتبطة تاريخيًا بالطبقة القديمة.


التركيز على التنمية البشرية:

 توجيه الاستثمارات نحو التعليم والتدريب المهني لرفع مستوى الكفاءات الوطنية المتراكمة.


الخلاصة: إن الخروج من مستنقع الفساد يتطلب إرادة سياسية لا تتهاون في تفكيك شبكة الزبونية والمحسوبية التي تشكلت عبر التاريخ. إن استخدام الثروات الهائلة لتمويل العدالة الاجتماعية وتنمية الأغلبية المحرومة هو المسار الوحيد لتحويل موريتانيا من تاريخ الهوة إلى دولة وطنية مزدهرة أساسها الكفاءة والمواطنة العادلة.




الأحد، 12 أكتوبر 2025

المال العام والضمير الوطني: نحو عقد اقتصادي جديد في موريتانيا

 المال العام والضمير الوطني: نحو عقد اقتصادي جديد في موريتانيا

الملخص:

يشكل المال العام الركيزة الأساسية لبناء الدولة الحديثة، وشرطًا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. وتعكس إدارة الموارد المالية، ونسبة العدالة في توزيعها، ونجاعة مكافحة الفساد، مدى ارتباط المواطن بدولته وولائه لها.

تتناول هذه الورقة العلاقة بين استغلال المال العام، العدالة الاقتصادية، ومكافحة الفساد في موريتانيا، مع التركيز على دور المواطن في مراقبة إنفاق الدولة، وإعادة صياغة مفهوم الولاء الوطني. ويخلص البحث إلى أن إقامة نظام وطني رشيد يعتمد على الشفافية والمساءلة والعدالة التوزيعية هي الطريق الأمثل لبناء الدولة الوطنية الحقيقية، ولتحقيق التنمية الشاملة والرفاه للمواطن.

المقدمة:

يمثل المال العام في أي دولة حديثة ليس مجرد موارد مالية، بل هو أداة استراتيجية لتأسيس الدولة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وفي موريتانيا، تتجلى التحديات في التفاوت الكبير بين الأقلية التي تتحكم في خيرات البلاد والغالبية التي تعاني من ضعف الخدمات والفرص الاقتصادية، مما يضعف الولاء الوطني ويعزز الفساد.

إن فهم المواطن لدوره وواجباته تجاه المال العام، وإدراكه لمسؤولية الدولة في توجيه الموارد بشكل عادل، يشكل عنصرًا جوهريًا لإعادة بناء العقد الاجتماعي وتنمية الدولة على أسس الاستدامة والعدالة.

المحور الأول: المال العام بين الملكية الجماعية والمساءلة المجتمعية

يعتبر المال العام ملكًا لكل المواطنين، ويشكل الحق الجماعي في التنمية. تشير الدراسات إلى أن الضرائب التي يدفعها المواطنون، بما في ذلك التاجر والفلاح والعامل وبائعات الكسكس، تشكل نحو 62% من ميزانية الدولة.

لو كان المواطن مدركًا لهذا الحق، لكان أول المدافعين عن سلامة المال العام، وشارعًا للرقابة عليه، كما أن الدولة التي توظف هذه الموارد في رفاه المواطن تبني الولاء وتحقق الاستقرار الاجتماعي.

المحور الثاني: العدالة الاقتصادية وتوزيع الثروات

يشير الواقع إلى أن أقل من 4% من سكان موريتانيا يتحكمون في جزء كبير من الموارد الوطنية، بينما تظل الغالبية الساحقة محرومة من فرص التنمية.

تؤكد النظرية الاقتصادية التنموية أن عدم المساواة في توزيع الموارد يقوض النمو المستدام، ويزيد من احتمالية الفساد، ويضعف الانتماء الوطني. لذا، يجب توجيه الموارد لتحقيق تكافؤ الفرص، وضمان العدالة في التعليم والصحة والعمل والبنية التحتية.

المحور الثالث: الفساد كعائق أمام التنمية

الفساد الإداري والمالي يعطل مشاريع الدولة ويحول الموارد عن أهدافها التنموية. وتشير الدراسات العالمية إلى أن مكافحة الفساد وتحسين الشفافية يعززان النمو الاقتصادي ويزيدان من كفاءة استخدام الموارد العامة.

إن محاسبة المفسدين وتطبيق العقوبات الرادعة يعد ركيزة أساسية لتمكين الدولة من تحقيق التنمية، وإعادة الثقة بين المواطنين وحكومتهم.

المحور الرابع: الحوكمة الرشيدة كمدخل لإصلاح الدولة

تتطلب التنمية المستدامة وجود حوكمة رشيدة تتضمن:

1. الشفافية في الإنفاق العام.

2. المساءلة القانونية والمؤسساتية.

3. العدالة في توزيع الموارد الاقتصادية.

4. مشاركة المواطنين في صنع القرار الاقتصادي.

تطبيق هذه المبادئ يعزز العلاقة بين المواطن والدولة ويحول الولاء الوطني إلى التزام عملي وفاعل.

المحور الخامس: العقد الاقتصادي والاجتماعي الجديد

يهدف النظام الوطني الرشيد إلى إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة عبر:

القضاء على الفساد المالي والإداري.

توجيه المال العام لخدمة المواطن وتحسين مستوى حياته.

تعزيز العدالة الاجتماعية وتمكين الجميع من فرص متساوية.

بهذا يصبح المواطن شريكًا في التنمية، وينتقل الوطن من مرحلة الريع إلى مرحلة الإنتاج والعدالة، ويستعيد العقد الاجتماعي كأساس لبناء الدولة.

النتائج والتوصيات

1. يجب توجيه المال العام لتعزيز رفاه المواطنين ورفع مستوى حياتهم.

2. العمل على محاسبة جميع المفسدين دون استثناء وتطبيق عقوبات رادعة.

3. تعزيز الوعي المجتمعي بحقوق المواطنين تجاه المال العام.

4. توسيع قاعدة المشاركة الاقتصادية والاجتماعية لضمان العدالة التوزيعية.

5. اعتماد الشفافية والمساءلة كآليات أساسية في إدارة الموارد الوطنية.

الخاتمة

إن حماية المال العام واستخدامه في خدمة المواطنين هو أساس بناء الدولة الوطنية. وعندما يشعر المواطن بالمسؤولية تجاه المال العام، ويشهد الإنصاف والعدالة في توزيع الموارد، تتحقق التنمية المستدامة، ويُرسخ الولاء الوطني، ويصبح العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع راسخًا.

إن إصلاح منظومة المال العام، ومكافحة الفساد، وتوسيع فرص العدالة الاقتصادية، يمثلان الطريق الأمثل لموريتانيا نحو دولة وطنية قوية وعادلة، قادرة على تحقيق رفاهية مواطنيها واستدامة مواردها.

المراجع (موجزة)

1. البنك الدولي. (2022). تقرير الحوكمة والشفافية في موريتانيا.

2. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. (2021). مؤشرات التنمية البشرية والعدالة الاقتصادية في إفريقيا.

3. عماد، محمد. (2020). العدالة الاقتصادية والتنمية المستدامة: منظور تنموي. الدار العربية للنشر.

4. وزارة المالية الموريتانية. (2023). ميزانية الدولة وتقارير الإنفاق العام.








السبت، 11 أكتوبر 2025

التصعيد الأمريكي الإسرائيلي ضد إيران: بين منطق القوة وحدود النظام العالمي


التصعيد الأمريكي الإسرائيلي ضد إيران: بين منطق القوة وحدود النظام العالمي

في لحظة تاريخية تتسم بالتحولات الجيوسياسية العميقة، يعود شبح الحرب إلى سماء الشرق الأوسط، حيث يتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، على خلفية الملف النووي الإيراني. غير أن هذا التصعيد لا يمكن قراءته فقط من زاوية الصراع العسكري، بل يستدعي تأملًا أعمق في بنية النظام الدولي، وحدود الردع، وتوازنات القوى الإقليمية والعالمية.

1. من التنسيق العسكري إلى احتمالات المواجهة

التحالف الأمريكي الإسرائيلي ليس جديدًا، لكنه في هذه المرحلة يتخذ طابعًا أكثر هجومية. تحريك حاملات الطائرات الأمريكية إلى الخليج، والتصريحات المتكررة من مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين حول "الخيار العسكري" ضد إيران، تعكس نية واضحة في فرض معادلة جديدة بالقوة، تتجاوز أدوات الضغط الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية. هذا التوجه يعكس تصورًا استراتيجيا يرى في إيران تهديدًا وجوديًا، لا يمكن احتواؤه إلا عبر الضربات الاستباقية.

2. إيران بين العزلة والدعم المتعدد الأقطاب

رغم العقوبات والضغوط، لم تعد إيران معزولة كما كانت في السابق. باكستان أعلنت دعمها السياسي لطهران، وإن نفت تقديم دعم عسكري مباشر. أما الصين وكوريا الشمالية، فهما حليفتان محتملتان في حال اتسع نطاق المواجهة، خصوصًا في ظل التوترات المتزايدة بين بكين وواشنطن. ومع ذلك، تشير التحليلات إلى أن موسكو وبكين لن تغامرا بمواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، بل ستكتفيان بدعم غير مباشر لإيران.

3. المواقف الإقليمية: بين الحذر والتوازن

الدول العربية، وعلى رأسها دول الخليج، تجد نفسها في موقف معقد. فهي من جهة تخشى النفوذ الإيراني، ومن جهة أخرى ترفض التصعيد العسكري الذي قد يهدد استقرارها. إدانة الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران من قبل بعض دول الخليج يعكس هذا التوازن الدقيق. أما مصر، التي انضمت مؤخرًا إلى مجموعة "بريكس" إلى جانب إيران، فقد تتبنى موقفًا أكثر استقلالية عن المحور الأمريكي. تركيا، بدورها، تميل إلى الحياد الحذر، مع رفضها العلني لأي دعم لإسرائيل في مواجهة إيران.

4. هل نحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة؟

السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن أن يتحول هذا التصعيد إلى حرب عالمية ثالثة؟ من منظور استراتيجي، لا تزال احتمالات الحرب الشاملة ضعيفة، نظرًا لوعي القوى الكبرى بتكلفة المواجهة النووية. إلا أن استمرار التصعيد، وتعدد الأطراف المنخرطة، قد يؤدي إلى انزلاق غير محسوب نحو صراع واسع النطاق. فالحروب الكبرى في التاريخ لم تبدأ بقرارات عقلانية، بل غالبًا ما اندلعت نتيجة سلسلة من الحسابات الخاطئة، وسوء التقدير، وتراكم الأزمات.

5. بين منطق الردع ومنطق الهيمنة

ما نشهده اليوم هو صراع بين منطقين: منطق الردع الذي تسعى إيران إلى ترسيخه عبر تطوير قدراتها الدفاعية، ومنطق الهيمنة الذي تسعى إليه الولايات المتحدة وإسرائيل لضمان تفوقهما الاستراتيجي. غير أن هذا الصراع لا يمكن فصله عن التحولات الكبرى في النظام الدولي، حيث تتراجع الأحادية القطبية، وتبرز قوى جديدة تطالب بإعادة توزيع النفوذ والشرعية.

6. خاتمة: الحاجة إلى عقلانية دولية جديدة

في ظل هذا المشهد المعقد، تبدو الحاجة ماسة إلى عقلانية دولية جديدة، تتجاوز منطق القوة إلى منطق التوازن والاعتراف المتبادل. فاستقرار الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق عبر القصف والتهديد، بل عبر حوار شامل يعترف بمصالح جميع الأطراف، ويؤسس لنظام إقليمي جديد، أكثر عدالة وشمولًا. إن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت الحرب ستقع، بل: هل لا يزال في العالم ما يكفي من الحكمة لتجنبها؟

المراجع:

1. القدس العربي – التنسيق العسكري بين واشنطن وتل أبيب

2. الشروق – تصريحات إسرائيلية حول العمل العسكري

3. النهضة نيوز – باكستان تنفي الدعم العسكري

4. مونت كارلو الدولية – دعم إسلامي لإيران

5. بي بي سي – موقف روسيا والصين

6. بي بي سي – إدانة خليجية للهجوم الإسرائيلي

7. Eurasia Arabic – انضمام مصر وإيران 

8. مقاربات – تحليل خطر الحرب العالمية

مكافحة الفساد واجب دستوري وتنموى

 مكافحة الفساد واجب دستوري وتنموى

على رئيس الجمهوريةالأستجابة الفورية لتقارير المحكمة العليا والرقابة العامة

المقدمة

في ظل ما كشفته تقارير المحكمة العليا والرقابة العامة لعام 2025 من اختلالات جسيمة في تسيير المال العام، وتفشي شبهات الفساد في مؤسسات الدولة، لم يعد السكوت خيارًا، ولا التأجيل مبررًا. إن رئيس الجمهورية، بصفته حامي الدستور وقائد السلطة التنفيذية، يتحمل مسؤولية مباشرة في مواجهة هذا التحدي الوطني، الذي يمس سيادة الدولة، كرامة المواطن، ومصداقية المؤسسات.

المرتكز الدستوري: حماية المال العام ومساءلة الفاسدين

- تنص المادة 57 من الدستور الموريتاني على أن المال العام ملك للشعب، ويجب أن يُدار وفقًا لمبادئ الشفافية والمساءلة، ويُعاقب كل من يعتدي عليه وفق القانون.  

- تقرير المحكمة العليا لعام 2025 كشف عن مخالفات خطيرة، أبرزها:

  - اختلاسات ممنهجة في مؤسسات حكومية.

  - فواتير صورية وتزوير في العقود.

  - شبكات فساد منظمة تعمل على الاستحواذ على المال العام.

- هذه المخالفات تُعد بلاغًا قضائيًا رسميًا يُلزم رئيس الجمهورية بالتحقيق الفوري وتفعيل أدوات المحاسبة.

الواجب الوطني: استعادة الثقة وحماية      السيادة

- الفساد يُضعف مؤسسات الدولة ويُفقد المواطن ثقته في وطنه. كما ورد في بيان حزب "جود"، فإن ما كشفه التقرير "يُهدد الاقتصاد الوطني ويُظهر وجود جمعيات أشرار هدفها تدمير المال العام".

- السكوت عن الفساد يُعد خيانة للثقة الشعبية، ويُغذي مشاعر الإحباط والاغتراب السياسي، ويُهدد الوحدة الوطنية.

- القيادة الوطنية تُقاس بالقدرة على اتخاذ قرارات جريئة، تطهر المؤسسات، وتعيد الاعتبار للعدالة والشفافية.

 الضرورة التنموية: شرط أساسي للنمو والاستثمار

- تقرير الرقابة العامة ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2025، رقم 01088، والصادر بتاريخ 4 نوفمبر 2024، أشار إلى اختلالات في إعداد الموازنة، وغياب الرقابة الفعالة على الإنفاق العام.

- تقرير البنك الدولي لعام 2020 أكد أن "غياب الشفافية يُكلف منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ويُضعف الثقة في الحكومات ويُعيق النمو الاقتصادي".

- تقرير موقع النجاح الاقتصادي شدد على أن "الفساد يُعيق التنمية المستدامة ويُقلل من العوائد الاقتصادية، ويُعزز عدم المساواة في توزيع الموارد".

 الإطار القانوني: قانون مكافحة الفساد رقم 2025/021

- صدر القانون رقم 2025/021 في 15 يوليو 2025، ويتضمن:

  - إلزامية التصريح بالممتلكات.

  - حماية المبلغين عن الفساد.

  - إنشاء السلطة الوطنية لمكافحة الفساد.

- هذا القانون يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات مباشرة لتفعيل التحقيقات، وتجميد أموال المتورطين، ومنعهم من تقلد الوظائف العامة.

 الخطوات التنفيذية العاجلة

1. إصدار أمر رئاسي عاجل بتفعيل السلطة الوطنية لمكافحة الفساد، وتكليفها بالتحقيق في كل ما ورد في تقريري المحكمة العليا والرقابة العامة.  

2. إقالة كل مسؤول ورد اسمه أو مؤسسته في شبهات التسيير، إلى حين انتهاء التحقيقات.  

3. نشر التقارير الرقابية كاملة للرأي العام، وتوضيح الإجراءات المتخذة بحق المخالفين.  

4. تعديل القوانين لتغليظ العقوبات على جرائم المال العام، وتسهيل إجراءات التقاضي.  

5. إشراك المجتمع المدني والصحافة المستقلة في الرقابة، لضمان شفافية وطنية شاملة.

الخاتمة

إن مكافحة الفساد ليست خيارًا سياسيًا، بل التزام دستوري، وواجب وطني، وضرورة تنموية. وكل تأخير في المحاسبة يُعد تفريطًا في السيادة، وإهانة للعدالة، وتواطؤًا مع الفساد. إن اللحظة التاريخية تفرض على رئيس الجمهورية أن يكون قائدًا للإصلاح، لا حارسًا للصمت. فالوطن لا يُبنى إلا على العدالة، والمستقبل لا يُصان الا بالمناسبة. 


الأربعاء، 8 أكتوبر 2025

نحو هندسة تصاعدية للدولة: قراءة في مشروع النظام الشعبي اللامركزي

 نحو هندسة تصاعدية للدولة: قراءة في مشروع النظام الشعبي اللامركزي

 

 المقدمة: من المركزية إلى السيادة الشعبية


في ظل الأزمات البنيوية التي تعاني منها الدول المركزية، يبرز مشروع النظام الشعبي اللامركزي بوصفه محاولة جذرية لإعادة تشكيل الدولة من القاعدة إلى القمة، عبر هندسة تصاعدية تضع المواطن في قلب القرار، وتعيد توزيع السلطة والثروة على أساس تشاركي، شفاف، وتنموي.


هذا المشروع لا يكتفي بتفكيك المركزية، بل يقترح بديلاً مؤسسيًا متكاملًا، ينطلق من القرية كوحدة تأسيسية، ويتصاعد تدريجيًا حتى يصل إلى المجلس الوطني العام، مرورًا بالبلديات، المقاطعات، والولايات الجهوية.


 البنية التصاعدية: الدولة من أسفل إلى أعلى


يقوم المشروع على سلسلة من المجالس المنتخبة، تبدأ من القرية وتنتهي بالدولة، وفق التراتبية التالية:


- مجلس القرية: منتخب محليًا، مسؤول عن الشؤون السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والخدمية.

- مجلس البلدية: يتشكل من رؤساء مجالس القرى التابعة لها، ويضع أهدافه بناءً على خطط القرى.

- مجلس المقاطعة: يتشكل من رؤساء البلديات، ويقوم بالتنسيق الإقليمي.

- مجلس الولاية الجهوية: يتشكل من رؤساء المقاطعات، ويضع الاستراتيجيات الجهوية.

- المجلس التسيري العام للدولة: يتشكل من رؤساء الولايات، ويحدد السياسات الوطنية.


 هذه البنية تضمن أن كل قرار وطني هو انعكاس مباشر لاحتياجات القاعدة الشعبية، وتمنع الانفصال بين المركز والمحيط.


التخطيط والموازنة: من المواطن إلى الدولة


يؤسس المشروع لمنهجية تخطيط وموازنة تصاعدية:


- تبدأ الأهداف والخطط من القرية، وتُدمج تدريجيًا في خطط البلديات، المقاطعات، والولايات.

- تُبنى استراتيجيات الدولة على أساس استراتيجيات الولايات الجهوية.

- تُعد الموازنة العامة انطلاقًا من احتياجات القرى، وتُوزع نزولًا حسب الخطط المعتمدة.

- تُنفذ الموازنات من قبل المجالس التسيرية، وتخضع لرقابة فصلية صارمة.


هذه المنهجية تحقق العدالة التوزيعية، وتمنع التهميش، وتضمن أن تكون الموارد موجهة حسب الأولويات المحلية.


الرقابة، الأمن، والحياد المؤسسي


يركز المشروع على فصل السلطات وضمان النزاهة:


- أجهزة رقابة مستقلة في كل مستوى، تتابع الأداء وتعد تقارير فصلية.

- تحقيق فوري في كل شبهات التسيير، مما يعزز الشفافية والمساءلة.

- منع انخراط أفراد الأمن في السياسة، حتى بعد التقاعد، لضمان حيادية المؤسسات الأمنية.

- انتخاب مسؤولي القضاء والتشريع والرقابة بشكل مستقل، وفق نفس النمط التصاعدي.


 هذه المبادئ تؤسس لدولة قانون حقيقية، وتمنع تسييس المؤسسات، وتضمن استقلالية القضاء والرقابة.


 التنمية الجهوية والمسؤولية المحلية


كل ولاية جهوية مسؤولة عن تنميتها، عبر مجالسها وقراها وبلدياتها ومقاطعاتها. وتخضع هذه المجالس لتقييم دوري، وتُحدد مدة عملها بثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مما يمنع الاحتكار ويعزز التجديد الديمقراطي.


 هذا يعزز التمكين المحلي، ويحول المجتمعات من متلقية إلى فاعلة في التنمية.


 المقارنة مع النماذج العالمية


يتقاطع هذا النموذج مع تجارب دولية مثل:


- الهند: عبر نظام "Panchayati Raj" الذي يمنح القرى سلطة حقيقية.

- سويسرا: في الديمقراطية المباشرة والرقابة الشعبية.

- السنغال وجيبوتي: في اللامركزية الجهوية.


لكن المشروع المقترح يتفوق عليها في منهجيته التصاعدية الشاملة، وربطه بين التخطيط والموازنة والرقابة بشكل متكامل، مما يجعله نموذجًا فريدًا في العالم العربي والإفريقي.


  توصيات للتطبيق 


1. صياغة دستور تأسيسي لهذا النموذج، يحدد صلاحيات كل مجلس وآليات الرقابة.

2. إعداد دليل تشغيلي للمجالس، يوضح كيفية إعداد الخطط والموازنات.

3. إنشاء معهد وطني للحوكمة اللامركزية، لتدريب المسؤولين المحليين.

4. إجراء تجارب محلية تجريبية، لتقييم فعالية النموذج قبل تعميمه.

5. إدماج هذا النموذج في المناهج الأكاديمية، كإطار جديد للحوكمة التشاركية.


-


 لائحة المراجع


1. Rondinelli, D. A. (1981). Government decentralization in comparative perspective: theory and practice in developing countries. International Review of Administrative Sciences.

2. Manor, J. (1999). The Political Economy of Democratic Decentralization. World Bank.

3. Smoke, P. (2003). Decentralisation in Africa: goals, dimensions, myths and challenges. Public Administration and Development.

4. Agrawal, A., & Ribot, J. (1999). Accountability in decentralization: A framework with South Asian and West African cases. Journal of Developing Areas.

5. Shah, A. (2006). Local governance in developing countries. World Bank Institute.

6. Heller, P. (2001). Moving the state: The politics of democratic decentralization in Kerala, South Africa, and Porto Alegre. Politics & Society.

7. UNDP (2004). Decentralized Governance for Development: A Combined Practice Note on Decentralization, Local Governance and Urban/Rural Development.

8. OECD (2019). Making Decentralisation Work: A Handbook for Policy-Makers.

9. Constitution of India – Part IX: The Panchayats.

10. Swiss Federal Constitution – Articles on Cantonal Autonomy and Direct Democracy.

السبت، 4 أكتوبر 2025

الحكم في القرآن بين عدل الله واستبداد الطغاة


الحكم في القرآن بين عدل الله واستبداد الطغاة


القرآن الكريم يضع تصورًا واضحًا لمفهوم الحكم والسلطة، يقوم على أن الحكم لله وحده، وأن أساس الملك هو العدل، وأن الطغيان والانحراف عن شرع الله سبب للهلاك والفساد

1. الحكم لله وحده

الله سبحانه هو المصدر الأعلى للتشريع والسلطة، ومنه تُستمد الشرعية:

 ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40].

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26].

2. العدل أساس الحكم

العدل هو الغاية الكبرى من الحكم، وهو شرط بقاء السلطة:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58].

3. طاعة أولي الأمر في حدود الشرع

طاعة ولاة الأمور واجبة، لكنها مقيدة بطاعة الله ورسوله:

 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59].

فالطاعة المطلقة لله ورسوله، أما طاعة الحكام فهي مشروطة بعدم مخالفة شرع الله وعدله.

4. نماذج الحكام العادلين

داوود عليه السلام: آتاه الله الملك والحكمة وفصل الخطاب، فكان حاكمًا بالعدل:

﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: 20].

سليمان عليه السلام: ورث الملك والحكمة من أبيه، وسخّر الله له الجن والريح، لكنه بقي عبدًا شاكرًا لله.

ذو القرنين: مثال للحاكم الصالح الذي جاب الأرض ناشرًا العدل، وبنى سدًا يحمي الناس من الفساد:

 ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ [الكهف: 95].

محمد ﷺ: النموذج الأكمل للحاكمية العادلة، حكم بالشرع، وأقام العدل، وجمع بين القيادة السياسية والرسالة الإلهية.

5. نماذج الحكام المفسدين

القرآن لم يغفل عن ذكر الطغاة الذين جعلوا الحكم وسيلة للظلم والفساد:

فرعون (ملك مصر): رمز الاستبداد، علا في الأرض، استضعف بني إسرائيل وادعى الألوهية:

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا...﴾ [القصص: 4].

النمرود (ملك بابل): جادل إبراهيم في الله بسبب غروره بملكه، وادعى القدرة على الإحياء والإماتة:

 ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 258].

ملوك سبأ قبل إسلام بلقيس: عرف عنهم البطش والعلو حين يدخلون القرى:

﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل: 34].

أهل مدين وأصحاب الأيكة: استغلوا سلطتهم الاقتصادية في التلاعب بالمكاييل والموازين، فحذرهم شعيب عليه السلام:

 ﴿وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ [هود: 84].

6. الخاتمة

القرآن الكريم يضع خطًا فاصلًا بين الحاكمية العادلة والطغيان المفسد

فالحاكم العادل يحكم بشرع الله ويقيم العدل كداوود وسليمان وذو القرنين ورسول الله ﷺ.

بينما الطاغية المستبد يتجبر ويعلو في الأرض كفرعون والنمرود وملوك سبأ قبل الهداية.

وبذلك يوجّه القرآن الأمة إلى معيار واضح: السلطة أمانة، والعدل شرط، والطغيان فساد وهلاك 

بين العنف والسلام العادل: تأملات في معنى القوة والعدالة والتقدّم الإنساني

 بين العنف والسلام العادل: تأملات في معنى القوة والعدالة والتقدّم الإنساني


✦ مقدّمة


يعيش الإنسان منذ فجر التاريخ في صراع دائم بين نزعتين متقابلتين: نزعة القوة والسيطرة، ونزعة السلام والعدل. وبين هاتين القوتين المتعارضتين نشأت الحضارات وسقطت أخرى، وتحدّدت مسارات الأخلاق والفكر والسياسة.

تسعى هذه التأملات إلى طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية حول مفهوم القوة والعدالة، وحدود استخدام العنف، وإمكان قيام التقدّم في بيئة من السلم العادل.


1. ما هي القوة التي يحتاجها العالم لتقدّمه وازدهاره؟


القوة ليست مفهومًا واحدًا؛ فهي تتخذ أشكالًا متعددة: اقتصادية، علمية، عسكرية، وأخلاقية. غير أن التقدّم الحقيقي لا يتحقق بالقوة المادية وحدها، بل بالقوة التي تُعيد للإنسان توازنه الداخلي، وتُعزّز ثقافة المعرفة والضمير الجمعي. فالحضارات التي تقوم على العلم والعدل أطول عمرًا من تلك التي تقوم على السلاح والهيمنة.


2. قوة الحرب أم قوة السلام؟


يبدو التاريخ الإنساني وكأنه اختبار دائم بين خيارين: الحرب بوصفها محرّكًا للتغيير، والسلام بوصفه أساسًا للبناء. غير أن التطوّر الحديث كشف أن الحرب، مهما بدت مبرّرة، تخلق اختلالًا في ميزان الإنسانية. بينما السلام القائم على القيم المشتركة، والاحترام المتبادل بين الأمم، ينتج استقرارًا مستدامًا يهيّئ البيئة للإبداع والازدهار.


3. السلام أم الحرب في مصلحة الحياة البشرية؟


تقدّم البشرية لا يمكن أن ينشأ في بيئة العنف، لأن الحرب تستهلك الموارد وتغذّي الخوف والشك. أما السلام العادل، فهو شرط أساسي لازدهار الإنسان، إذ يتيح تراكم المعرفة، واستثمار الطاقات في البناء لا الهدم.


4. العدالة بين الحرب والسيطرة


تاريخ الإنسان حافل بحروبٍ رفعت شعار العدالة، لكنها انقلبت إلى أدوات للهيمنة. الفرق بين الحرب العادلة والحرب الاستغلالية هو أن الأولى تستند إلى قيم إنسانية كونية، بينما الثانية إلى نزعة الامتلاك. العدالة الحقيقية لا تُفرض بالقوة الغاشمة، بل بقوة القانون والضمير الإنساني.


5. قوة السلم وأسسها


السلم ليس ضعفًا، بل هو أعلى درجات القوة الأخلاقية. قوته تنبع من الحكمة والقدرة على ردع الظلم دون الوقوع في فخه. إنه سلام مبني على عدالة تُحقّق الكرامة للإنسان، لا على خنوعٍ يُكرّس الاستبداد. لذلك، فإن بناء السلام يحتاج إلى توازنٍ بين الردع العادل والتسامح الواعي.


6. هل يمكن أن يوجد تقدّم في ظل العنف؟


العنف يخلق حركة مؤقتة، لكنه لا يخلق حضارة. قد تخرج بعض الابتكارات من رحم الحروب، لكنها تظل نتائج ظرفية لبيئة مأزومة. أما الازدهار بمعناه الإنساني العميق، فلا يمكن أن ينمو في تربة الخوف والدمار.


7. وهل يمكن أن يستمر التقدّم في ظل السلام العادل؟


نعم، بل إن السلام العادل هو الحاضن الطبيعي للتقدّم الحضاري. فحين يتوفّر الأمان والإنصاف، تُستثمر طاقات الإنسان في الابتكار لا النجاة. السلام لا يعني الجمود، بل هو الحاضنة التي تُتيح للإنسان أن يرتقي فكريًا واقتصاديًا وأخلاقيًا.


8. الاستعداد للحرب أم بناء السلم؟


قد يبدو الاستعداد للحرب ضرورة للأمن، لكنه يصبح خطرًا إن تحوّل إلى غاية. فالأمن الحقيقي لا يقوم على التسلّح وحده، بل على العدالة الاجتماعية، والتعليم، والتكافؤ بين الشعوب. دعاة الاستعداد للحرب باسم السلام يمكن تسميتهم بـ"أنصار الردع"، أما دعاة السلم القائم على العدالة فهم "صُنّاع التوازن الإنساني".


✦ العدالة الإلهية وإعادة التوازن


ليست العدالة في ميزان الحضارات انتقامًا، بل توازنًا بين الفعل والنتيجة يحفظ للنظام الكوني انسجامه. فالقصاص في جوهره ليس “عينًا بعين” بمعناها البدائي، بل مبدأ كوني يُعيد الاتزان إلى الحياة.

قال تعالى:


> «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» [البقرة: 179].

فالقصاص هنا حياة لا موت، وردعٌ لا انتقام، وعدالةٌ تُقيم السلم على أساس من الحكمة الإلهية، لا على منطق القوة البشرية.


✦ الخاتمة


القوة الحقيقية ليست في القدرة على التدمير، بل في القدرة على منع التدمير. السلام العادل ليس ضعفًا ولا استسلامًا، بل هو وعي حضاري ناضج يوازن بين الحق والرحمة، بين الردع والعفو.

فإذا استطاعت الإنسانية أن تُحوّل مفهوم القوة من العنف إلى العدالة، ومفهوم السلام من الخضوع إلى التوازن، فإنها تكون قد بلغت مرحلة النضج الأخلاقي، وأقامت أركان حضارةٍ جديدة على أنقاض قرونٍ من الصراع.


 المراجع والمصادر الفكرية:


1. القرآن الكريم.


2. أرسطو، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد.


3. إيمانويل كانط، مشروع السلام الدائم، ترجمة محمد الهلالي.


4. جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة فؤاد زكريا.


5. هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد


6. المهاتما غاندي، السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة (للمقارنة الفلسفية لا الاستشهاد المباشر).


7. مالك بن نبي، شروط النهضة.


8. محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام.


9. هانا آرندت، في العنف.


10. تقرير الأمم المتحدة عن بناء السلام